يبدو المشهد المصري حالياً ، كإعادة بالصورة البطيئة جداً للسقوط المدوي لنظام البعث في العراق عام 2003 ،ومن هنا يمكن استنتاج الأجوبة الكاملة لقصة ترنح الامبراطورية الصدامية ومن ثم انهيارها الكامل في اعقاب 2003.
فكثيرا ما تساءل المحللون والعسكريون بدهشة كبيرة عما يمكن أن يكون قد جرى لتختفي زمر الأمن والحرس الجمهوري والامن الخاص والفدائيين وغيرها مما اعد له النظام الحاكم آنذاك وصرف عليه الكثير من الجهد والاموال وصولاً الى تغيير المعادلة الأصلية من "أمن" الوطن والمواطن الى أمن الرئيس والحاشية الحاكمة.
في الوضع العراقي ، ونتيجة للكبت الاعلامي السائد آنذاك فقد ضل السؤال شاخصاً دون إجابة حقيقة شافية ،أين رموز النظام؟ الحرس الخاص؟الحرس الشخصي؟ المخابرات؟الفدائيين؟ الشرطة والأمن العام؟ قيادات ومنتسبي الحزب بكافة درجاتهم؟ الإطفاء ...المرور...مكافحة الاجرام....الخ.
اما في الحالة المصرية ن فيمكن الاستفادة -بصورة كبيرة- من البطئ النسبي في انهيار منظومة الحكم ، وامكانية ايقاف السيناريو ووضع اليد على المشاهد -موضع الشك والريبة- وبالتالي الاستخلاص والنتائج.
ففي الوقت الذي كان العمل الرئيسي لقوات الامن المصرية هو قمع المتظاهرين والحد من انتشار المد التظاهري بأي صورة كانت ، نجد أن وزارة الداخلية بأكملها قد تلاشت ربما في غضون ساعات معدودة بعد جهاد مضني لأكثر من اثنتين وسبعين ساعة مع المحتجين.وهذا- الجهد - يمكن أن يكون جواباً مقنعاً أول الأمر حول الشريحة "القمعية" للأمن كالشرطة والمباحث وقوات منع الشغب وما الى ذلك.رغم أن المنصفين من الشعب المصري يدركون أن افراد الشرطة والأمن والمباحث هم افراد منتمين الى مؤسسة عسكرية كبرى وعريقة وليسوا عمالاً في فرن خبز مثلاً...
ولكن ثمة تساؤل يندرج من رحم السؤال الأصلي ثائراً وضارباً بعرض الحائط الأجوبة آنفة الذكر "حول تردي اللياقة الأمنية لقوات الأمن" وهو : أين شرطة المرور والإطفاء وحرس الحدود وشرطة الفنادق وحراسات المرافق الحيوية كالمتاحف وغيرها؟؟!!
وحسب فهمي فإن الأجابة على ذلك تستدعي أمرين: الأول ،العودة بالذاكرة الى المشهد العراقي في بدايات 2003 ، وإنتشار حلات الفزع والهلع والسلب والحرائق في منشآت حيوية والحاق اضرار مركزة ومقصودة في البنى التحتية الوطنية ،ولقد بقي الفاعل مجهولاً غالباً عدا ما تناهى الى العقل الجمعي من أسطورة العصابات المحلية وما بات يعرف فيما بعد بـ"الحواسم" .على أن "الحواسم" هذه هي في الغالب مجموعات من افراد محليين ذهبت بهم الحاجة الاقتصادية عادة الى حمل ما خف وزنه وزاد ثمنه كانتقام من سنوات الفقر والحاجة، أما الصورة المطلوب الاجابة عنها بشكل ضروري فهي: من خرب الوزارات ، من أحرق المرافق الحيوية ، من يستفيد من تخريب وانهاك البنى التحتية ،(يذكر بعض شهود العيان آنذاك ان افراداً منظمين كانوا يدخلون المرفق أو المؤسسة فيعيثون فيها فساداً منظماًُ وموجهاً دون ان تمتد ايديهم الى المال العام).
الأمر الثاني ، لاستكمال الإجابة هو تواتر الشهادات من القاهرة والاسكندرية والاسماعيلية وغيرها ، حول القاء الجيش المصري القبض على "رجال أمن" متخفين في زي "سرّاق وبلطجية" كما يعبرون ، أي أن المؤسسة الأمنية قد بدأت الخطة الثانية أو الخطة ""B والتي تستدعي الاستغناء عن الزي الرسمي الحكومي لاستكمال خطة الشيطان !
تلك الخطة التي تستهدف من جملة ما تستهدفه أمرين مهمين : الاول رسالة موجهة الى الرأي العام العالمي والأمريكان واسرائيل خاصة : وهي أن البديل ليس افضل من الحالي اكيداً أن لم يكن اسوأ منه ،نستنسخ في هذا المجال صورتين مهمتين الاولى مصرية حالية والثانية عراقية -سابقة: النظام المصري يركز وسائل اعلامه وابواقه المحلية والخارجية على مسامهمة "الاخوان المسلمين" في التظاهرات وانهم بالتالي المحرك الرئيسي للاحتجاجات مغازلاً بذلك الرعب التاريخي للغرب من الحكومات الاسلامية او حكومات المد الاسلامي.
الرسالة الثانية موجهة الى الداخل المحلي"المصري" ، عبر إجبار العقل الوطني على الاختيار بين امرين: الامن ،أو اسقاط النظام . امان الناس والمجتمع أو الاستمرار في التظاهرات. بمعنى آخر: أمن+تسلط..... أم حرية+فوضى.وهي معادلة غير صحيحة اطلاقاً ،بل هي معادلة تم تصنيعها في مختبرات الأنظمة الفاسدة فحسب.
الصورة العراقية : بقايا النظام وابواقه الدعائية ينجح في استقطاب الاهتمام الاقليمي والعربي بالفورة غير المسبوقة لرجال الدين المحليين -مع الايحاء عن عمليات الدعم الاقليمي المجاور- كنتيجة لوحدة الثقافة والمذهب والحدود وغيرها.نتيجة ذلك دفع وما يزال يدفع العراقيون أنهاراً من الدم لإشباع غريزة العصابات الارهابية القادمة من الخارج.
في الحالة المصرية ، أعتقد ان "الأخوان" كانوا اذكى من النظام المصري بكثير ،بحيث لم يخرج الى واجهة الاحداث "احداث الشارع المصري" مايوحي بأن هذا الحزب المحظور حكومياً هو من يقود الاحتجاجات والتظاهرات المطالبة برحيل النظام. فالوعي وقراءة الاحداث هو ما احتاجته الاحزاب المعارضة في مصر في تلك اللحظة التاريخية وهو ما نجحت فيه الى الآن نجاحاً منقطع النظير.
أما في الوضع العراقي ،فنشاهد رموزاً "دينية" في الأعم الأغلب قد تصدت للمشهد السياسي في عراق ما بعد 2003 دون ان تؤدي الدور المرجو منها في تلك اللحظة التاريخية العصيبة ، عدا ما جرته على ابناء الوطن من ويلات وتفجيرات وارهاب مصنّع ومعد خصيصاً للعراق تحت يافطة "الحد من المد الشيعي" ، فهم بذلك قد اضروا الشعب من حيث يعلمون أو لايعلمون، الخطأ الأكبر الآخر الذي وقعت فيه شريحة "المعممين" أو الاسلامويين القادمين من خارج حدود العراق ، أنها وضعت نفسها مختارة وليست مرغمة في صراع مع "مقاومة الداخل" العراقي وهي مقاومة شعبية انبرت كحاجة مجتمعية ملحة كرد فعل عفوي وشعبوي نتيجة ممارسات الاحتلال البشعة ،بالتالي انتهت المواجهة -وكالعادة- بمزيد من الخسارة للطرفين، القيادات الدينية القادمة من الخارج خسرت الرصيد المتبقي من مصداقيتها في الشارع، المقاومة الوطنية ، باتت تصارع في اتجاهين،الاول هو المحتل ، والثاني قيادات الخارج -وهو الصراع الاصعب هنا- بلحاظ اشتراك الطرفين في الوطنية والدين والمذهب والعقيدة ، وهو صراع قد اضر كثيراً بوحدة المجتمع ،إلا انه يبدو الآن وكأنه لا بد منه خصوصاً بعد الانحياز الغير مبرر لقيادات الخارج نحو أجندة المحتل.
مشتاق طالب عيسى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق